كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: معناه أن الإماء يلدن الملوك، فتكون أمه من جملة رعيته، وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وهذا قول إبراهيم الحربي، وقيل: معناه أن تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان، فيكثر تردادها في أيدي المشترين، حتى يشتريها ابنها ولا يدري، ويحتمل على هذا القول أن لا يختص هذا بأمهات الأولاد، فإنه متصور في غيرهن، فإن الأمة تلد ولدا حرا من غير سيدها بشبهة، أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد.
وأما بعلها، فالصحيح في معناه أن البعل هو المالك أو السيد، فيكون بمعنى ربها على ما ذكرناهـ. قال أهل اللغة: بعل الشيء ربه ومالكه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما والمفسرون في قوله سبحانه وتعالى:
{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} 37: 125: أي ربّا، وقيل: المراد بالبعل في الحديث، الزوج، ومعناه نحو ما تقدم، أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهذا أيضا معنى صحيح، إلا أن الأول أظهر، لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى كان أولى، والله أعلم.
واعلم أن هذا الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد، ولا منع بيعهن، وقد استدل إمامان من كبار العلماء به على ذلك، فاستدل أحدهما على الإباحة، والأخر على المنع، وذلك عجب منهما، وقد أنكر عليهما، فإنه ليس كل ما أخبر صلى الله عليه وسلّم بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو مذموما، فإن تطاول الرعاء في البنيان، وفشو المال، وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس بحرام بلا شك، وإنما هذه علامات، والعلامة لا يشترط فيها شيء من ذلك، بل تكون بالخير والشّر، والمباح والمحرم، والواجب وغيره، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلّم: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان»، أما العالة فهم الفقراء، والعائل الفقير، والعيلة الفقر، وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر، والرعاء بكسر الراء وبالمد، ويقال فيهم الرعاة بضمّ الراء وزيادة الهاء بلا مدّ، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والقافة، تبسط لهم الدنيا، حتى يتباهون في البنيان، والله أعلم.
قوله: «فلبث مليا» هكذا ضبطناه، لبث آخره ثاء مثلثة من غير تاء، وفي كثير من الأصول المحققة «لبثت» بزيادة تاء المتكلم، وكلاهما صحيح، وأما «مليا» بتشديد الياء، فمعناه وقتا طويلا، وفي رواية أبي داود والترمذي، أنه قال ذلك بعد ثلاث، وفي شرح السنة للبغوي بعد ثالثة، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة بعد هذا بم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ردّوا عليّ الرجل، فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «هذا جبريل» فيحتمل الجمع بينهما أن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلّم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر رضي الله عنه بعد ثلاث، إذا لم يكن حاضرا وقت إخبار الباقين، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلّم: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»، فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها نحوه، وقال فيه: فلبثت مليا، وخرجه الترمذي بنحو حديث مسلم وقال في آخره: فلقيني النبي صلى الله عليه وسلّم بعد ذلك بثلاث فقال: يا عمر، أتدري من السائل؟
ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. قال القاضي عياض: فقد قرر أن الإيمان محتاج إلى العقد بالجنان، والإسلام دينا، واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف، والآداب واللطائف، بل هو أصل الإسلام، ومن فوائد هذا الحديث:
[1]. أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع.
[2]. أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه، ليتمكن من سؤاله، غير هائب منه ولا منقبض.
[3]. أنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله.
وأخرجه أيضا النسائي، وقال في أوله: عن أبي هريرة وأبي ذر قالا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه، وإنا لجلوس ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في مجلسه، إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها، وأطيب الناس ريحا، كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلّم في طرف البساط فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام. قال: أدنو يا محمد،.. فما زال يقول: أدنو مرارا حتى وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: يا محمد، أخبرني ما الإسلام...» وساق الحديث باختلاف يسير.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند، وقال في آخره بعد قوله صلى الله عليه وسلّم: «ذاك جبريل جاءكم يعلمكم دينكم، قال: وسأله رجل من جهينة، أو مزينة فقال: يا رسول الله، فيما نعمل؟ أفي شيء قد خلا أو مضى؟ أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: في شيء قد خلا أو مضى، فقال رجل أو بعض القوم: يا رسول الله فيما نعمل؟ قال: أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار».
به مضطر إلى النطق باللسان، وهذه الحالة المحمودة التامة، وأما الحال المذمومة:
فالشهادة باللسان دون تصديق القلب، وهذا هو النفاق، قال: وللفرق بين القول والعقد ما جعل في حديث جبريل عليه السلام، الشهادة من الإسلام، والتصديق من الإيمان، وبقيت حالتان أخريان بين هذين.
إحداهما: أن يصدق بقلبه ثم يخترم قبل اتساع وقت للشهادة بلسانه، فاختلف فيه فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول والشهادة به، ورآه بعضهم مؤمنا مستوجبا للجنة لقوله صلى الله عليه وسلّم: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان»، فلم يذكر سوى ما في القلب، وهذا مؤمن بقلبه غير عاص ولا مفرط بترك غيره، وهذا هو الصحيح في هذا الوجه.
الثانية: أن يصدق بقلبه ويطول مهلة وعلم ما يلزمه من الشهادة فلم ينطق بها جملة، ولا استشهد في عمره ولا مرة، فهذا اختلف فيه أيضا فقيل: هو مؤمن لأنه مصدق، والشهادة من جملة الأعمال، فهو عاص بتركها غير مخلد في النار.، وقيل: ليس بمؤمن حتى يقارن عقده بشهادة، إذ الشهادة إنشاء عقد وإلزام إيمان، وهي مرتبطة مع العقد، ولا يتم التصديق مع المهملة إلا بها، وهذا هو الصحيح.
وخرج الحاكم من حديث عبد الرازق عن معمر عن أيوب عن سعيد بن هيثم، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار»، فجعلت أقول: أين تصديقها في كتاب الله، وقلّ ما سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا وجدت وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتي به صلى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 4: 59، وقال: {أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3: 132، فجمع تعالى بينهما بواو العطف المشتركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه صلى الله عليه وسلّم، قال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 24: 54، وقال: {من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله} 4: 80، وقال: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 59: 7، وقال: {وَمن يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ} 4: 69. الآية، وقال: {وَما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ الله} 4: 64، فجعل طاعة رسوله طاعته تعالى، وقرن طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه، فبيّن أنه سبحانه وتعالى فرض على الكافة بأسرها طاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء، كما فرض تعالى طاعته ولم يقل من طاعتي، أو من كتابي أو بأمري، وحين فرض أمره ونهيه صلى الله عليه وسلّم على الخلق طرا كفرض من التنزيل، لا يزاد في ذلك، ولا يطلب فيه تنبيه، كما أخبر تعالى عن قوم موسى عليه السلام أنهم قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً} 2: 55، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أولى بأمته وبأموالهم وأنفسهم وأهليهم وذراريهم منهم بأنفسهم، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِمْ} 33: 6، وقع ذلك منهم بوفاقهم وكراهيتهم، فإنه تعالى حكم على من وجد في نفسه شيئا من حكمه صلى الله عليه وسلّم وقضائه بالخروج من الإيمان، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 4: 65، فأقسم سبحانه وتعالى بأن أحدا لا يؤمن حتى يحكّم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلّم، ثم مع تحكيمه إياه لا يجد في نفسه كرها لما قضى به عليه مما هو مخالف لهواه، بل يرضى بما حكم به، ويسلّم لأمره تسليما لا شائبة فيه من اعتراض ولا تعقيب.
وانظر- أعزك الله وهداك- كيف أقسم تعالى بإضافة الرب إلى كاف الخطاب، يتبين لك تعظيمه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلّم، حتى هنا: غاية، أي ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين، و{فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 4: 65، في كل أمر دنيوي وأخروي وقع بينهم فيه تنازع وتجاذب، ومعنى {يُحَكِّمُوكَ} 4: 65: يجعلوك حكما، وفي الكلام حذف تقديره: فتقضي بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا، أي ضيقا من حكمك.
وقال مجاهد: شكّا، لأن الشاكّ في ضيق من أمره حتى يلوح له الشأن، وقال الضحاك: إثما، أي سبب إثم، والمعنى: لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضى، وقيل: هما وحزنا، ويسلموا: أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك لا يعارضون فيه بشيء، قاله ابن عباس رضي الله عنهما والجمهور.
وقيل: معناه ويسلموا: أي سارعوا فيه لحكمك، ذكره الماوردي، وأكد تعلق الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة.
قال المفسرون والأئمة: طاعة الرسول في التزام محبته والتسليم لما جاء به، وقالوا: وما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه، وقالوا: من يطع الرسول في سنته يطع الله في فرائضه.
وسئل سهل بن عبد الله عن شرائع الإسلام فقال: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 59: 7، وقال السمرقندي: يقال: أطيعوا الله في فرائضه والرسول في سننه، وقيل: أطيعوا الله فيما حرّم عليكم والرسول فيما بلغكم، ويقال: أطيعوا الله بالشهادة له بالربوبية، والنبي بالشهادة له بالنّبوّة.
وخرج البخاري في كتاب الأحكام من حديث الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع من أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى أميري فقد عصاني»، وخرجه مسلم مثله.
قوله صلى الله عليه وسلّم: «ومن أطاع أميري فقد أطاعني»، في رواية همام، والأعرج وغيرهما عند مسلم: «ومن أطاع الأمير»، ويمكن رد اللفظين لمعنى واحد، فإن كل من يأمر بحق وكان عادلا فهو أمير الشارع، لأنه تولى بأمره وبشريعته، ويؤيده توحيد الجواب في الأمرين، وهو قوله: صلى الله عليه وسلّم: «فقد أطاعني»، أي عمل بما شرعته، وكأن الحكمة في تخصيص أميره بالذكر، أنه المراد وقت الخطاب، ولأنه سبب ورود الحديث.
وأما الحكم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ووقع في رواية همام أيضا: «ومن يطع الأمير فقد أطاعني» بصيغة المضارعة، وكذا «ومن يعص الأمير فقد عصاني» وهو أدخل في إرادة تعميم من خوطب ومن جاء بعد ذلك.
قال ابن التين: قيل: كانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة، فكانوا يمتنعون على الأمراء، فقال هذا القول يحثهم على طاعة من يؤمرهم عليهم، والانقياد لهم، إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولا هم البلاد، فلا يخرجوا عليهم، لئلا تفترق الكلمة.
قال الحافظ في الفتح: هي عبارة الشافعيّ في الأم، ذكره في سبب نزولها، وعجبت لبعض شيوخنا الشراح من الشافعية، فكيف قنع بنسبة هذا الكلام إلى ابن التين، معبرا عنه بصيغة «قيل»، وابن التين إنما أخذه من كلام الخطابي؟
ووقع عند أحمد، وأبي يعلي، والطبراني، من حديث ابن عمر، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في نفر من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أن من أطاعني فقد أطاع الله، وأن من طاعة الله طاعتي؟ قالوا: بلى نشهد، قال: فإن من طاعتي أن تطيعوا أمراءكم»، وفي لفظ: «أئمتكم»، وفي الحديث وجوب طاعة ولاه الأمور، وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية، والحكمة في الأمر بطاعتهم، المحافظة على اتفاق الكلمة، لما في الافتراق من الفساد، والله أعلم. فتح الباري: [13/ 139- 141]، كتاب الأحكام، باب [1] {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [4: 59]، حديث رقم [7137].
مسلم بشرح النووي: [12/ 464]، كتاب الإمارة، باب [8] وجوب طاعة الأمراء من غير سواء، فطاعة الرسول من طاعة الله، إذ الله أمر بطاعته، وطاعته امتثال لما أمر الله به وطاعة له.
وقد حكى الله تعالى عن الكفار في دركات. جهنم يوم تقلب وجوههم في النار يقولون: {يا لَيْتَنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} 33: 66. فتمنوا طاعته حيث لا ينفعهم التمني.
وخرج البخاري ومسلم من حديث ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم»، وخرجه البخاري من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». ذكره في كتاب الاعتصام.
قال الإمام النووي: هذا من جوامع الكلم، وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها.
وقال غيره: فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبّر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا، لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود، إذ لا يتصور منهما العود عادة، فلا معنى للعزم على عدمه.
واستدل به على أن من أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه، ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.
واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد.
فإن قيل: أن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ {لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} [2: 286]، فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين، كذا قيل، والّذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة، لا يدل على المدعي مع الاعتناء به، بل هو من جهة الكف، إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي.
وعبّر الطوفي في هذا الموضوع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم النهي عنه قد تتخلف، واستدل له بجواز أكل المضطر الميتة، وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة.
وقال ابن فرج في شرح الأربعين: قوله صلى الله عليه وسلّم: «فاجتنوه»، هو على إطلاقه، حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان، كما نطق به القرآن.
والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح ترك العمل بالعذر لأن العمل قد يعجز المعذور عنه.